أسس وقواعد رسم المصحف (العثماني) الشريف
يقف الباحث وطالب العلم محتارا أمام أصل وماهية وأهمية الرسم القرآني الفريد وقد احتدم الخلاف بين أصحاب الإختصاص فمنهم وهم القلة من أنكره تماما واعتبره خطأ بشريا من قبل كتبة الوحي، ومنهم من اعتبره توقيفيا ووحيا إلهيا معجزا لأسرار وحكم بالغة لم يأن وقت جلها، ومنهم وهم الكثرة الغالبة من اعتبره توفيقيا بإجماع الصحابة الكرام ولكن لا يجوز مخالفته والعدول عنه وقد جردوه بذلك من صفتي الحكمة والاعجاز، وخلاصة القول وبعد الدراسة والتمحيص يتأكد للباحث أنه توقيفي ووحي إلهي له حِكَم لا تنتهي، علم من علم وجهل من جهل، وبيان ذلك ابتداء وحصرا للمؤمنين بالقرآن الكريم وحيا من رب العالمين، أن الله سبحانه إنما اختار أن يبتدأ التنزيل بالآية الأولى من سورة العلق بكلمة إقرأ، وكررها بالآية الثالثة، وذكر القلم في الآية الرابعة للإشارة إلى النسخة المسطورة من القرآن الكريم (الكتاب) الموحى به حرفيا والمحفوظ من أدنى تحريف حيث أن المجتمع الأمي في ذاك الزمن الأول لم يعهد ولم يهتم بالكتابة ولا بالكتب إلا على أضيق نطاق
فكانت أول كلمة بالتنزيل هي فعل الأمر اقرأ. والقرآءة إنما تكون من السطور المكتوبة، ولذلك كان جواب النبي الأمي البدهي: ما أنا بقارىء، لأنه صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يقرأ، وتكررالامر بالقراءة، والجواب عليه ثلاث مرات كما ثبت في كتب السيرة المطهرة، وقد ورد في الأثرفي سيرة ابن هشام عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام أول ما جاء بالوحي جاء ومعه نمط من ديباج فيه كتاب، لعله القرآن الكريم الذي أنزل كاملا في ليلة القدر، ومن هنا يتبين أن أمين الوحي جبريل عليه السلام إنما أتى بالكتاب وبلغ الوحي بالقرآن الكريم ابتداء في ليلة القدر وتدريجيا على مدى سنوات البعثة الشريفة بنسختيه الصوتية (القرآن) والمرئية (الكتاب) كما هما محفوظتان تماما باللوح المحفوظ من قبل أن يكونا واقعا ملموسا في حياة الناس، وانتهى الأمر إلى المصحف الشريف الذي هو بين أيدينا اليوم والذي يعود إلى ما اصطلح عليه بالكتبة الأولى وذلك عندما أفتى إمام وعالم المدينة المنورة مالك بن أنس بحرمة كتابة المصحف إلا كما كتبه زيد بن ثابت كاتب الوحي رضي الله عنه والذي حضر العرضة الأخيرة للقرآن الكريم قبيل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بحضور أمين الوحي جبريل عليه السلام، والذي اعتاد الصحابة الكرام على رؤيته والتعلم منه كما ورد في الحديث الطويل المشهور والمعجز والمروي عن عمر بن الخطاب في صحيح مسلم عندما أتى رجل غريب شديد بياض الثياب و سواد الشعر ولا يعرفه أحد ولا يبدو عليه أثر السفر فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ يسأله في أمور الدين ويصدقه والصحابة يتعجبون، ثم غادر فقال النبي عليه السلام أتدرون من الرجل قالوا الله ورسوله أعلم فقال إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم، وأكثر ما كان حضور جبريل مجالس الصحابة على هيئة الصحابي الجليل دحية الكلبي رضي الله عنه، ويؤكد حتمية حفظ الكتاب المحكم العزيز قوله سبحانه في سورة الحجر
والذِّكرفي الآية الكريمة يراد به كلتا النسختين الصوتية والمرئية (القرآن والكتاب) فالله سبحانه تولى أمر تنزيل كتابه وحفظه فكيف يخطر ببال مؤمن أن الله يفرط في حفظ كتابه ويسمح بالعبث به ولو مقدار ذرة؟ وفي قوله سبحانه في سورة الشورى
فالله سبحانه هو الذي أنزل كتابه بالحق الذي لا يأتيه الباطل وبالميزان الإلهي الفائق المحكم في أدق التفاصيل، وفي وقوله سبحانه في مطلع سورة البقرة في أول آية في القرآن الكريم بعد الفاتحة حيث ينفي الله سبحانه أدنى درجات الشك والريب عن كتابه المحكم الكريم
وينفي الله سبحانه في سورة الأنعام أي تفريط في الكتاب
ومن ثم يؤكد سبحانه في مطلع سورة هود إحكامه وتفصيله لآيات كتابه الحكيم
وأخيرا وليس آخرا يؤكد سبحانه في سورة فصلت استحالة أن ينال كتابه العزيز أي عيب أو نقص
وهل بعد كل هذا من يظن ممن آمن بالله ربا وبالاسلام دينا أن الله حاشاه قد فَرط مقدار ذرة في حفظ كتابه أوتركه عرضة لأخطاء البشر وأوهامهم وأهوائهم؟
أما لغير المؤمنين، وللباحثين منهم عن الحقيقة والحق بصدق وإخلاص فإن الرسم القرآني والمشهور بالعثماني لهو أكبر دليل مادي ملموس على إعجاز ورفعة وتميز كتاب الله الحكيم عن كتب البشر قديمها وحديثها وذلك لسعة انتشاره في كامل النص القرآني الكريم واتخاذه أنساقا متجانسة متناغمة ذات دلالات ومعاني فائقة تصلح بمجموعها أن تصنف كقوانين راسخة يستحيل معها أن تكون من فعل بشر، لأنها غائبة تماما في كل الكتب البشرية فهي سمة وفن قرآني رفيع خالص، وأُجْمِلُ في ما يلي وجوها من ألوان طيفها الواسع وأدلل بأمثلة مختصرة عليها
النموذج (القانون) الاول: حذف أواثبات حرف الألف في الكلمة القرآنية ومعانيه ودلالاته
أولا: في كلمة صاحب فكتبت مرة بحذف الألف ومرة بإثباتها في سورة الكهف
نفس الكلمة في نفس الصفحة في نفس السورة كتبت على وجهين مرة بحذف الألف ومرة باثباتها، وأدناه بالرسم الأول بدون تنقيط وحركات كما كتبها زيد بن ثابت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وحسب القاعدة النحوية فإن كل زيادة في المبنى يرافقها زيادة في المعنى، والعكس فكل نقص في المبنى يرافقه نقص في المعنى، فما الدلالة هنا؟
في المرة الأولى كان المتكلم هو الصاحب الغني المتكبر المغرور بماله وبجنتيه الظالم لنفسه فحذف الله سبحانه ألف الكلمة الدالة عليه (فقال لصحبه وهو يحاوره) تصغيرا وتخفيفا لوزنه وتحقيرا لشأنه من جهة، ومن جهة ثانية فإن علاقة الصحبة بين الرجلين كانت حميمة ولصيقة قبل إعلان الكفر والتكذيب حيث لم يكن بعد قد أظهر كفره وتكذيبه بالبعث والنشورفيعكس حذف حرف الألف علاقة القرب الوثيقة هذه وقد تكررهذا المعنى في آيات متعددة وردت فيها كلمة صاحب وصاحبة حذفت منها الألف لهذه الدلالة، في حين أن المتكلم في المرة الثانية كان الصاحب الفقير ولكن المؤمن بالله ربا والراضي عنه فأثبت الله ألف كلمة صاحب الدالة عليه (قال له صاحبه وهو يحاوره) وذلك إعلاءا لشأنه ومكانته وتثقيلا لوزنه عند الله من جهة، وللدلالة على انفصام عرى الصداقة الحميمة بعد إعلان صاحبه لكفره، فَضَمّن الله سبحانه هذه المعاني الخفية الرائعة في النص دون ترهل أوإخلال بمجرد إضافة وحذف حرف واحد في كلمة واحدة تكررت مرتين على هيأتين، فهل هذا الفن اللغوي المبهر بمقدور بشر، وهل هو موجود في أي نص أدبي بشري؟ وحتى لا يبقى مجالا للشك أو التأويل نقول أن هذا المثل ليس غريبا ومنفردا في القرآن الكريم بل هناك الكثير منه على نسق ثابت راسخ متواتر يصلح بمقتضى ذلك أن يشكل قانونا من قوانين الرسم القرآني الفريد، حيث أن شكل حرف الألف (ا) القائم كالعمود الممتد للأعلى يفيد معاني العلو والعزة والقيمة والثقل من ناحية ، كما أنه يفيد بشكله القائم المعترض كالحاجز معنى السد أو الفاصل سواء كان الفاصل زمانيا أو مكانيا، نفسيا أو معنويا، في حين أن العكس صحيح عند حذفه من الرسم ولكل من ذلك أمثلة متعددة نجدها حاضرة ثابتة في كتاب الله الكريم
ثانيا: كلمة ميعاد كتبت مرة واحدة بحذف الألف وخمس مرات بإثباتها في سور متعددة
يؤكد هذا المثل بما لا يدع مجالا للشك أن الرسم القرآني هو وحي الهي محفوظ، فهذه الآيات متباعدة ومتباينة زمانيا ومكانيا منها المكي ومنها المدني، فكيف يعقل أن تكتب على هذه الشاكلة بهذا التناسق المذهل مع القانون المذكور أعلاه لو كانت كتابة بشر؟ وهل عرف الادب البشري قديمه وحديثه مثل هذا الاسلوب؟ حيث أن كلمة ميعاد في سورة الأنفال والتي انفردت بحذف حرف الألف إنما تشير إلى ميعاد دنيوي قريب وهو ميعاد بشري يحتمل التخلف (لاختلفتم في الميعاد) فناسب هذه المعاني حذف الألف لقربه من ناحية ولاحتمال تخلفه من ناحية ثانية، في حين أن المواعيد الخمسة التي أثبتت فيها الألف إنما هي مواعيد الهية لا تتخلف (إن الله لا يخلف الميعاد) كما أنها متأخرة (فاصل زمني) ليوم القيامة فناسب ذلك إثبات حرف الألف، فكل هذه المعاني الخفية ضمنت بالنص بواسطة حذف أو اثبات حرف واحد فقط
ولمزيد من الايضاح والتأكيد نورد مثالا ثالثا أعجب وأجمل وأدق ولا يمكن بحال من الأحوال أن يصدر عن بشر ولا يخطر له ببال لدقته ولطفه وخفائه، وهو كلمة الآن، التي كتبت في كل القرآن الكريم على غير هيئتها المعتادة وذلك بحذف حرف الألف منها (الن ) خمس مرات، إلا في آية واحدة كتبت على هيئتها المعتادة (الآن) بإثبات حرف الألف فما دلالة ذلك؟
تستخدم كلمة الآن في كلامنا لتدل على الوقت الحاضر الآني الحقيقي فمثلا “سمعت الخبر الآن” تعني في هذه اللحظة الآنية الحاضرة الحقيقية، ولكن عند تأمل الآيات الخمس الأول أعلاه نلاحظ أن كلمة الآن باللون الأصفر والتي حذفت ألفها (الن) لا تدل على اللحظة الحاضرة الآنية لقارىء الآية ولكنها تدل على لحظة آنية في الزمن الماضي كما في الآية الأولى كانت تعني لحظة ذبح البقرة بعد تحقق الشروط، وفي الآية الثانية فالن باشروهن تعني ابتداء منذ لحظة نزول الآية وابتداء التشريع والعمل بها ولا تعني اللحظة الآنية لقارىء القرآن، وفي سورة النساء الآن تعني لحظة الموت للشخص المعني وليس لقارىء الآية لحظة قراءته، وكذلك في سورتي الأنفال ويوسف فكلمة الآن لا تعني الوقت الحاضر للقارىء بل وقت معركة بدر بسورة الأنفال ووقت اعتراف امرأة العزيز في الزمن الماضي فس سورة يوسف، ولكن الآية الأخيرة باللون الأزرق والتي كتبت فيها الآن على طبيعتها المعتادة هي الوحيدة التي تعني الزمن الحاضر الآني الحقيقي لتالي القرآن في أي لحظة منذ نزول الآية إلى يوم القيامة فإن الجن الذي يحاول الإستماع في أي لحظة بما فيها اللحظة الآنية لقارىء القرآن سيلاقي مباشرة شهابا جاهزا لرجمه فورا، فهل من شك بعد هذه الأمثلة الفائقة اللطف والجمال والبراعة والتي لولا التأمل والتدبر العميق لمجموع الآيات التي حصرت بالاستعانة ببرامج الحاسوب لما اهتدينا إليها فهي من عجائب القرآن التي تتبدى مع مرور الزمن، وستتبدى عجائب جديدة لمن يأتي من بعدنا ليبقى كتاب الله العزيز لا تنقضي عجائبه، ومن لم يقتنع بعد فليبحث لنفسه عن جواب لهذا السؤال المُلِح: من ابتدأ هذا الرسم؟ هل هو النبي الأمي صلى الله عليه وسلم؟ أم كاتبه زيد بن ثابت بمبادرة شخصية منه؟ أم من تراه يكون؟ الجواب الوحيد المعقول هو أنه وحي الهي محكم لحكم بالغة أرادها الله سبحانه فكانت لتتماهى مع روعة وعلو ورفعة الخطاب الإلهي الكريم
وللمزيد من هذه اللطائف والأمثلة لعجائب حرف الألف في الرسم القرآني المحكم على سبيل المثال لا الحصر على الروابط التالية
دلالة إضافة حرف ألف زائد لكلمة اليأس في الرسم القرآني الفريد
دلالة حذف واثبات حرف الألف في كلمتي حسنات وسيئات في الرسم القرآني الكريم
دلالة وحكمة حذف واثبات حرف الألف في كلمة قواعد في رسم القرآن الكريم
معاني ودلالات حرف الألف في كلمة سيماهم حسب قواعد وأحكام الرسم القرآني الكريم
النموذج (القانون) الثاني: كتابة حرف هاء التأنيث في الكلمة القرآنية على هيئتي القبض (تاء مربوطة: ة) والبسط (تاء مبسوطة: ت) وأحكامه ومعانيه ودلالاته
كما بينا وفصلنا في عجائب حرف الألف في الرسم القرآني الكريم المحكم، فكذلك فإن لخصوصية كتابة هاء التأنيث في نهاية الكلمة بالتاء المبسوطة أوالمفتوحة (ت)عوضا عن المربوطة (ة) مقاصد ومعاني غاية في الروعة والرشاقة والجمال من حيث تضمين وتحميل النص لمعان إضافية لا يحتمل تصريح النص بها بكلمات إضافية تؤدي إلى ترهل وتشتت النص وضياع معانيه، وهذا الفن القرآني الخالص لم يعرف قط في كتابات الكتاب المبدعين من البشر ولا خطر لهم على بال
أولا: في كلمة نعمة المضافة إلى لفظ الجلالة، كتبت على هيأتين (نعمة و نعمت)
هاتان الجملتان القرآنيتان من آيتين كريمتين مختلفتين من سورتي إبراهيم والنحل متماثلتان تماما في كل شيء باستثناء هاء التأنيث في كلمة نعمة المضافة إلى لفظ الجلالة الله حيث كتبت في المرة الأولى في سورة إبراهيم على الرسم الإملائي المعتاد بالتاء المربوطة (نعمة) في حين أنها كتبت في سورة النحل استثناء بالتاء المفتوحة (نعمت)، فالسؤال المُلح هنا هو ما تفسير هذا الإختلاف وسببه؟ وهل هو خطأ بشري غير مقصود أم أنه نسق قرآني مقصود و هادف؟ ومن نافلة القول أن الجواب لا يكمن في النص القريب لتماثله بل يجب تأمل النص الكلي للآيات وما جاورها لفهم الحكمة والمغزى لهذا الاختلاف
يعزوا المختصون في علم الرسم القرآني الإختلاف بين التاء المربوطة والتاء المفتوحة أن الأولى (ة) إنما تمثل مشهدا غيبيا غير ظاهر المعالم كليا أو جزئيا تماما مثل الجراب المربوط لا تعلم ما بداخله، في حين أن التاء المفتوحة (ت) إنما هي كالصحن المكشوف ظاهر المحتوى فهي بذلك تمثل مشهدا واقعيا حسيا مشهودا
وكما نرى في مثالنا الأول المذكورأعلاه وبالعودة إلى الآية 34 من سورة إبراهيم فإن الآية إنما تقرر أن المنعم سبحانه وتعالى قد أنعم على الناس بما لا يحصى من النعم التي احتاجوها أو طلبوها وتوبخهم وهم قد عاينوها وتنعموا ونعموا بها واقعا ملموسا في حياتهم الحاضرة لكنهم جحدوها وكفروها وأنكروها كفرا وجحودا فالمشهد هو وصف لنعم محسوسة واقعة مجربة لا تعد ولا تحصى من صحة وعافية ورزق وتوفيق وغيرها فناسبها كتابة حرف التاء مبسوطة (نعمت)، أما الآية 18 من سورة النحل فإنها أتت في سياق تعداد كثيرا من النعم الدنيوية الخاصة والعامة التي أنعم الله سبحانه بها على بعض عباده وليس كلهم في الحياة الدنيا، ولكنها وهو الأهم تمني المؤمنين الذين يرجون رحمة الله ومغفرته، بالمزيد من النعم الخفية الموعودة في الدنيا والآخرة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهي تصف مشهد غيب غير واضح التفاصيل ولذلك ناسبها كتابة هاء التأنيث لكلمة (نعمة) بالتاء المربوطة
يؤكد هذا المثل لهذا النسق القرآني الفريد عددا كبيرا من الأمثلة لكلمات مثل رحمة، قرة، شجرة، جنة، إمرأة، وغيرها مما سيتم بيانه باختصار إن شاء الله
يتبع