من وجوه الإعجاز: أرقام الآيات — المعاني و الدلالات

nephrons
10 min readJan 3, 2020

--

يتميز كتاب الله العظيم القرآن الكريم عن سائر الكتب بدقته البالغة وسرده لأكبر قدر من المعلومات بأقل عدد من الكلمات بأعلى درجات البلاغة. كما ينتهج الكتاب العزيز أساليب غير مألوفة لتمرير معاني ضمنية خفية للأجيال المتعاقبة ليتحقق وصف النبي صلى الله عليه وسلم له أنه لا تنقضي عجائبه. ومن هذه الأساليب التي لم تجلب الإهتمام إليها إلا حديثا مواضيع الإعجاز الرقمي و ما يتفرع عنه من وجوه لعل البحث الحالي من أحدثها و أبسطها و يتلخص بوجود معاني ضمنية يضيفها رقم الآية لموضوعها علما أن آيات المصاحف القديمة لم تكن مرقمة فما كان من الممكن ملاحظة مثل هذه العلاقات سابقا. ونبدأ بسرد أمثلة لعلها تكون حافزا لمزيد من الدراسة لسبر غورها و استخراج جواهرها

:المثل الأول: إختلاف المعنى بين الفعلين أنزل و نزّل بدلالة رقم الآية

يذكر ابن الأثير رحمه الله: “أن التحول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية، اقتضت ذلك، وهو لا يتوخاه في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة والبلاغة الذي اطلع على أسرارها، وفتش عن دفائنها، ولا تجد ذلك في كل كلام، فإنه من أشكل ضروب علم البيان، وأدقها فهماً، وأغمضها طريقاً

والذي يعنينا من كلام ابن الأثير هو أن كل تحول في بناء الكلمة يصاحبه تحول في معناها، وهذا أمر غير خاف على أهل العربية عموماً، والواقفين على بلاغتها على وجه الخصوص

وتأسيساً على هذا الملحظ، نتوقف هنا عند فعلين وردا بصيغتين مختلفتين في مواضع عديدة ومتفرقة من القرآن الكريم، وهما الفعل { نزّل }، و{ أنزل }. وهذان الفعلان ورد كل منهما في آية على حدة في مواضع، كما وردا مجتمعين في آية واحدة في موضعين، نقف عليهما في أثناء هذا المقال

كما أن الفعل (أنزل) يُستعمل في حق التوراة والإنجيل من جهة أنهما نزلا دفعة واحدة، بينما يُستعمل الفعلان { نزّل } و{ أنزل } معاً في حق القرآن الكريم من جهة أن القرآن أٌنزل دفعة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم تنزّل على دفعات على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عبر عن هذا الرأي الآلوسي بقوله: “التعبير بأنزل فيهما (التوراة و الإنجيل) للإشارة إلى أنه لم يكن لهما إلا نزول واحد، وهذا بخلاف القرآن الكريم، فإن له نزولين، نزول من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة، ونزول من ذلك إليه صلى الله عليه وسلم منجماً في ثلاث وعشرين سنة على المشهور، ولهذا يقال فيه: { نزّل } و{ أنزل }

تكرر ذُكر الفعلين أنزل و نزّل في القرآن الكريم عشرات المرات إلا أن ذكرهما لم يتكررمرتبطا بشكل مميز بأرقام آيات إلا برقمي الآيتين (1 و 23) فقط كما نلاحظ بالأمثلة التالية, ففي مطالع السور وخاصة الآية الأولى أكثر ما ورد بصيغة أنزل دلالة على النزول الكامل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر في حين تكرر ذكره بصيغة نزّل بثلاث سور في الآية رقم 23 في إشارة واضحة لنزوله منجما على فترة 23 عاما ولا يمكن إيجاد أي تكرار مميز لأي من هذين الفعلين مرتبطا برقم آية أخرى. ولا يمكن لعاقل أن يتصور أن هذا الترتيب هو محض صدفة

فالسورة الأولى الرعد الآية الأولى

والسورة الثانية إبراهيم الآية الأولى

والسورة الثالثة الكهف الآية الأولى

والسورة الرابعة القدر الآية الأولى

في حين أنه ورد بالآيات رقم 23 بصيغة نزّل بالسور الثلاث الآتيه

سورة البقرة
سورة الزمر
سورة الإنسان

ومن العجيب حقا أن الآية الاولى من سورة الفرقان قد خالفت هذا المنهج فوردت إستثناء بصيغة نزل بدل أنزل

وذلك لإستبدال كلمة القرآن بكلمة الفرقان والتي تقتضي التدرج بالتنزيل كما توضح ذلك الآية 106 من سورة الإسراء

“وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا”

وهذا ما يؤكد دقت هذا المنهج الرباني الذي يعطي معاني خفية باستخدام رقم الآية له دلالة واضحة بسياق الآيات الكريمة وهذا من العجائب التي يتفرد بها كلام الله سبحانه عن كلام غيره ويثبت بما لا يدع مكانا للشك أن ترتيب الآيات و السور إنما هو توقيفي بوحي من الجليل سبحانه

ولننتقل إلى مثال آخر في سورة طه الآية الأربعون حيث يقول سبحانه

فهذه الآية الكريمة تلخص بأسلوب عجيب المفاصل الهامة في حياة كليم الله موسى عليه السلام من الولادة إلى بدء النبوة مع بعض الإطناب في ذكر حال أمه وعناية الله بحالتها النفسية وحالته هو بعد قتله النفس وما ترتب على ذلك ولا شك أن هذه الأحداث الهامة هي التي قصها موسى عليه السلام في سورة القصص (والتي اعطت السورة اسمها) على الرجل الصالح في مدين والذي زوجه ابنته على أن يأجره ثماني أو عشر سنوات فبعد أن أتم موسى الأجل وسار بأهله وضل طريقه ليلا في صحراء سيناء حتى إذا رأى نارا بعيدة فذهب ليأتي منها بخبر أو قبس من النار لكنه بُشّر وعاد بالنبوة وكما يبعث عادة الأنبياء كان عمره وقتها قد ناهز الأربعين وهو القدر المذكور بنهاية الآية أي جئت يا موسى على موعد قدره الله لك ليبعثك نبيا إلى بني إسرائيل ونرى كيف توافق رقم الآية أربعون مع موعد بدء النبوة على سن الأربعين فسبحان العظيم الذي لا تنقضي عجائب كتابه الكريم

ويشبه هذا في حق نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم الآية رقم أربعين في سورة الأحزاب حيث بعث عندما بلغ الأربعين من العمر

في حين أن الآية رقم 23 من سورة فاطر تشير إلى مدة الرسالة وهي 23 عاما (13 في مكة و 10 في المدينة) حيث أمضى عليه الصلاة و السلام 23 عاما من عمره ينذر الناس حتى قبض وعمره 63 عاما

وننتقل إلى مثل آخر ذي علاقة و ثيقة بمثلنا السابق وهي قوله سبحانه في سورة القصص

فالرجل الصالح اشترط على موسى عليه السلام أن يعمل لديه ثماني سنوات و ترك له الخيار أن يزيدها سنتين فيصبح المجموع عشرة كاملة وعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأجلين قضى موسى عليه السلام فأجاب أكملهما أي أنه قضى ثمان سنوات و أضاف إثنتين 8+2 فسبحان الله كيف توافقت نهاية الآية الكريمة 28 مع هذين الرقمين وهل يمكن أن توجد طريقة أبلغ و أجمل من هذه للإشارة الخفية بدلالة رقم الآية للأجل الذي قضاه موسى عليه السلام

ومثال آخر من سورة محمد الآية الثالثة عشر حيث يتوافق رقم الآية 13 مع السنة الثالثة عشر من البعثة النبوية الشريفة وهي السنة التي هاجر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب إيذاء المشركين له ومحاولة قتله

ويؤيد هذا المعنى الآية الثالثة عشر من سورة إبراهيم عليه السلام

ومثالين آخرين بخصوص الأمر واتل عليهم

ففي سورة الشعراء الآية التاسعة والستين يتناغم رقم الآية مع مضمونها حيث أمرت النبي صلى الله عليه وسلم أن يتلوا عليهم نبأ إبراهيم ومن العجيب حقا أن اسم إبراهيم عليه السلام تكرر في القرآن الكريم كاملا تسع وستون مرة بالتمام كما في الشكل التالي

فهل هذه صدفة عشواء أم مظهر آخر لمنظومة عددية مدهشة تتكشف مظاهرها تباعا؟

ومثل ذلك وأوضح وأعجب ما ورد بشأن نوح عليه السلام حيث الآية الكريمة رقم 71 من سورة يونس عليه السلام

سورة يونس 71

حيث تأمر الآية الكريمة ورقمها 71 النبي عليه الصلاة والسلام أن يتلو على الناس نبأ نوح عليه السلام، فما دلالة هذا الرقم؟ العجيب والمدهش حقا أنه عدد ترتيب سورة نوح في المصحف الشريف فكأنها توجه النبي عليه الصلاة والسلام الى هذه السورة تحديدا

سورة نوح

وقد يسأل أحدنا سؤالا مشروعا، لماذا في حالة سيدنا إبراهيم عليه السلام لم يتم التوجيه إلى سورة إبراهيم بل كان التوجيه إلى مجموع الآيات التي ذكرته في كامل المصحف الشريف؟ والجواب المدهش حقيقة أن سورة إبراهيم لا تذكر إلا جزءا قليلا من قصته في ست آيات فقط من مجموع آيات السورة الإثنتي والخمسين، في حين أن جميع آيات سورة نوح عليه السلام مخصصة لقصته

ومثال آخر من سورة المدثر الآية الحادية عشر حيث يتناغم رقم الآية ورسمه مع مضمونها

فرقم 11 مؤلف من واحدين متقابلين ويرمز للقاء العبد المذنب المتكبر العنيد وحيدا ذليلا صاغرا أمام الواحد الأحد ليحاسبه على ما اقترف بعيدا عن أهله وماله ومصادر طغيانه و تكبره التي غرته في الدنيا لكنها اليوم لا تغني عنه شيئا

وننتقل إلى مثال جميل آخر في سورة مريم

فمن المعلوم أن عيسى عليه السلام رُفع إلى السماء وهو في عمر 33, كما أنه يبعث يوم القيامة و عمره 33. و العجيب أن عدد الكلمات التي تكلم بها وهو بالمهد كما في الآيات السابقة هو 33 تبدأ ب (إني عبدالله) وتنتهي ب (أبعث حيا). فسبحان الله هل يمكن أن يكون هذا محض صدفة. وهل يمكن أن تتوالى الصدف بهذا التناسق العجيب وتتعاقب في غير هذا الكتاب الكريم

و ننتقل إلى مثال جديد في سورة طه الآية 33 و 34

فمن البديهي أن التسبيح شرع 33 مرة والأذكار بعد الصلاة كما وردت بالأحاديث الصحيحة أن نسبح 33 و نحمد 33 و نكبر 34 تمام المئة فسبحان الله كأن الآيتين تفيدان أن لهذه الأعداد صفة الكثرة و من المعلوم عند الفقهاء أن الإلتزام بهذا العدد أفضل من الزيادة لعدد أكبر مثل 50 أو 60

ومن الأمثلة اللطيفة قول الحق سبحانه و تعالى في سورة البقرة الآية 143

فعدد آيات سورة البقرة هو 286 و رقم هذه الآية 143 أي أنها تقع تماما في وسط السورة ونلاحظ التوافق مع النص الكريم (وكذلك جعلناكم أمة وسطا)

و ننتقل إلى مثل آخر في سورة الأنعام حيث قوله جل و علا

فالآية الكريمة تتحدث عن إنزال الكتاب مفصلا تاما خالدا غير قابل للتحريف ونلاحظ أن كلمة (تمت) أتت مباشرة بعد رقم الآية 114 وهو عدد سور القرآن الكريم حيث اكتمل نزوله بتنزيل سورة النصر في حجة الوداع و يؤكد هذا المعنى الآية رقم 114 من سورة طه

وتمام الوحي يكتمل بتنزيل آخر سورة ويتم بها عدد السور 114 ونلاحظ هنا الدقة المتناهية حيث تحدثت آية الأنعام عن أن التنزيل قد تم واكتمل فأتت بعد الرقم 114 أما في سورة طه فتأمر النبي عليه السلام أن لا يتعجل قبل تمام الوحي فجاءت قبل الرقم 114 فسبحان الحكيم الخبير

وننتقل لمثل آخر في سورة النبأ الآية رقم 33

روى الضحاك عن حبر القرآن إبن عباس رضي الله عنه أن الكواعب هن الحور العين و أن الأتراب هو أنهن جميعا على عمر واحد هو 33 وهو متوافق مع رقم الآية

وفي سورة المطففين قوله عز وجل

إلى ماذا ينظر الأبرار؟ هذا ما تبينه سورة القيامة

و كما يبدع ابن القيم في وصف الجنة شعرا في مقدمة كتابه حادي الارواح الى بلاد الافراح

فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرة ……..أمن بعدها يسلو المحب المتيم

نعم إنها النظر إلى وجه الجليل سبحانه أعظم ما أوتي أهل الجنة من النعيم الذي يكسو وجوههم نضرة و جمالا فهم حين النظر متكئين على الأرائك ونرى كيف يتكامل معنى الآيتين و يتوافق رقم آية النظر 23 في السورتين بإشارة بديعة من لدن اللطيف الخبير سبحانه

وأخيرا و ليس آخرا ننهي هذه المجموعة من الأمثلة بآية سورة الحديد رقم 25 وهي من الإعجاز العلمي العددي المتعدد الوجوه

فمن العجيب حقا أن حاصل مجموع القيمة العددية لكلمة حديد هو 26 وهو موافق للعدد الذري لعنصر الحديد في حين أن مجموع الكلمة بأل التعريف (الحديد) هو 57 وهو موافق لأحد نظائر عنصر الحديد المستقرة كما أن الرقم 26 مطابق للآية التي ذكر فيها الحديد باعتبار البسملة آية من السورة وهو وجه معتبر عند علماء التفسير في حين أن الرقم 57 موافق لترتيب سورة الحديد في المصحف الشريف

كانت الامثلة السابقة لبيان هذا اللون الخاص من الاعجاز الذي ينفرد و يتميز به كتاب الله العزيز عن غيره وليكون فاتحة لمزيد من البحث الذي قد يؤدي لفهم أفضل للمعاني و الدلالات للآيات الكريمة فهناك الكثير من التوافقات التي لا يمكن بحال أن تكون محض صدفة لا دلالة لها كتشابه الآيتين رقم 20 من سورتي القصص و يس و ما قد يحمله من معاني يستلزم فهمها العودة الى السياق و مقارنته مع الإلمام بتفاصيل الحدثين و المراد من ذكرهما وأوجه التوافق و الخلاف و غير ذلك

سورة القصص
سورة يس

نرجو من الله سبحانه التوفيق والإخلاص والقبول و آخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين

**********************

--

--

No responses yet