الفرق في المعنى بين كلمتي القرية والمدينة في استخدام النص القرآني الكريم وأهميته

nephrons
5 min readMay 3, 2022

--

يجد المتأمل المتدبر لكتاب الله الكريم حاجة ماسة لفهم الاختلاف في المعنى المراد من الاستخدام المتبادل العجيب لكلمتي القرية والمدينة وقد تعاقب هذا التبادل المحير بينهما في قصة موسى عليه السلام في سورة الكهف وقصة مؤمن سورة يس حيث استبدلت كلمة القرية في كلتيهما بكلمة المدينة فجأة وبدون مقدمات أو سبب واضح، فالقرية بمفهومنا اليوم تختلف تماما عن المدينة في حجمها وتركيبها وموقعها ويستحيل أن تتغير بلحظة من قرية إلى مدينة؟

وفي بدء هذا البحث نأخذ بعين الاعتبار النقاط التالية

وجود شبه اجماع على نفي الترادف عن مفردات القرآن الكريم فالله سبحانه إنما وضع كل كلمة في مكانها المناسب لحكم عديدة قد نجهلها مرحليا، ولكننا لن نجد كلمة ممكن أن تحل مكان كلمة دون إحداث خلل ما في سياق النص

إن الباحث اليوم في كتب التفسير القديمة منها والحديثة لا يجد ما يفسر سبب هذا الاختلاف بين الكلمتين بما تطمئن إليه النفس ويستقيم عليه المعنى

إن التمييز بين دلالات الكلمتين المستنبط من تدبر آيات القرآن الكريم قد يحل الإشكال الواقع في فهم بعض الآيات الغامضة المعنى كالآية 58 من سورة الاسراء

فتجد التفاسير المتعددة قد اختلفت في تفسير هذا المعنى القطعي المؤكد للهلاك او العذاب الشديد العام الشامل ظاهريا ولذلك فمنهم من حدد القرى الهالكة بأنها فقط الظالمة، ومنهم من أضاف الإماتة للصالحة والهلاك للظالمة من غير دليل واضح، ولكن يبقى المعنى الحقيقي للآية الكريمة غامضا فهل سيكون هذا العذاب أو الهلاك مثلا بسبب حرب عالمية لا تبقي ولا تذر فتفنى البشرية جمعاء أم سيكون هناك ناجون ومن هم؟

في محاولة للإجابة على فرق المعنى والدلالة بين القرية والمدينة في القرآن الكريم نذكرالحقائق التالية

تكررت كلمة قرية في كامل القرآن الكريم 57 مرة في حين تكررت كلمة مدينة فقط 17 مرة

تلازمت معاني الفساد والظلم والمعاصي والعذاب والهلاك والدمار فقط مع كلمة القرية والقرى وخلت منها تماما كلمة المدينة

بالعودة إلى قصة موسى عليه السلام في سورة الكهف نلاحظ ما يلي: أتى موسى عليه السلام برفقة غلامه إلى قوم سوء في قرية يعيش بها رجل صالح وابنتاه، ولكن بمجرد دخول موسى عليه السلام الى القرية عدل القرآن الكريم عن تسميتها بالقرية وسماها مدينة

وبالمثل عندما نتأمل قصة سورة يس نجدها تتحدث عن قرية شديدة الضلال والفساد، ولكن بمجرد ما دخلها الأنبياء عدل القرآن الكريم عن تسميتها بالقرية وسماها مدينة

ويرجح هذا النسق اختيار كلمة مدينة حيث نشأ يوسف عليه السلام في بيت العزيز بالرغم من شدة الفساد المنتشر في تلك المدينة، وبالمقابل اختيار كلمة قرية لمدينة نينوى بعدما غادرها نبي الله يونس عليه السلام، ولا ننسى أن يثرب تحولت إلى المدينة بعدما تشرفت برسول الله صلى الله عليه وسلم، في حين سمى القرآن الكريم مكة قرية بعدما أخرجت النبي صلى الله عليه وسلم منها

ممكن أن نستدل من هذه النقاط ونستنتج أن القرية في التعبير القرآني تمثل تجمعا بشريا يغلب الشر فيه على الخير، في حين أن المدينة هي في المقابل تجمع بشري يغلب فيه الخير على الشر بغض النظر عن الموقع أو الحجم أو التركيب السكاني

ونستنتج أيضا أن وجود الأنبياء (والدعاة المصلحين) في أي مجتمع مهما كانت درجة فساده كاف ليقلب المعادلة فيه حيث يتحول الميزان لكفة رجحان الخير على الشر وبالتالي يتحول إلى مدينة آمنة

وأن سنة الله اقتضت نجاة الأنبياء والمصلحين من شمولهم بالعذاب الواقع على القرى الظالمة في حين أن صلاح عدد قليل من الناس في القرية لا يكفي لنجاتها أو نجاتهم هم أنفسهم إذا وقع العذاب

يدعم هذا التوجه في فهم الفرق في معنى الكلمتين الحديثين التاليين

قال القرطبي في التذكرة: إذا كثر المفسدون وقَلَّ الصالحون هلك المفسدون والصالحون معهم إذا لم يأمروا بالمعروف ويكرهوا ما صنع المفسدون، وهو معنى قوله: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة. اهـ

والحديث المتفق على صحته

٢٥٢٩ — يا أبا ذر! أتاني ملكان وأنا ببعض بطحاء مكة، فوقع أحدهما على الأرض وكان

الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصحابه: أهو هو؟ قال: نعم، قال

فزنه برجل فوزنت به، فوزنته، ثم قال: فزنه بعشرة، فوزنت بهم، فرجحتهم، ثم

قال: زنه بمائة فوزنت بهم، فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف فوزنت بهم، فرجحتهم

، كأني أنظر إليهم ينتثرون على من خفة الميزان، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لو

وزنته بأمة لرجحها

نفهم من ذلك أن القضية قضية أوزان ولكل شخص وزنه (فأما من ثقلت موازينه، وأما من خفت موازينه) وهذا على مستوى الفرد، وبالمحصلة فعلى مستوى المجتمع إذا رجحت أوزان الصالحين كان مجتمعا مدنيا آمنا من عذاب الله، أما إن رجحت كفة الظلم والفساد فالمجتمع قروي غير آمن أن يحل عليه العذاب، ومن هنا فعلى كل مسلم أن يسعى جاهدا ليثقل موازين الصلاح ولا يستهين أحد بوزنه أو بعمل صالح يفعله أو بمعصية يبتعد عنها فقد يكون بذلك نجاته على مستوى الفرد ونجاة المجتمع ككل مرهونة بذلك، وقد يفسر ذلك جزئيا ما رأيناه في أيامنا هذه من خراب حواضر الإسلام التي تعرضت للدعاة والصالحين وشردتهم في حين سلمت المدن التي آوتهم واحتضنتهم ولم تتعرض للدعاة والصالحين في ديارهم، هذا والله أعلم وأحكم وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين

لفهرس المواضيع الرجاء الضغط هـــــــــــــــنــــــــــــا

--

--

No responses yet