التركيب الحَلَقي في الفاتحة - أم الكتاب - من لطائف السبع المثاني والقرآن العظيم
Ring-structure in Al-Fateha, and The Holy Quran
أنزل الحق سبحانه وتعالى كتابه المعجز الكريم بلسان عربي مبين على قوم ملكوا ناصية اللغة والبيان وفاقوا الأمم بالفصاحة والبلاغة والكلام، فأعجزهم وبهرهم بعجيب نظمه وبراعة أساليبه الفريدة التي لم يألفوها من قبل، ولكن الشيء المدهش حقا هو أن يحوي أساليب من الجمال موجودة بأدب لغات غيرالعربية كأسلوب التركيب الحَلقي، وهو تناظر تركيب مقدمة النص مع خاتمته حول جملة محورية تعمل كالمرآة العاكسة لهما، ويتجلى هذا الأسلوب الغريب عن العربية وأدبها في أعظم سورالقرآن الكريم وآياته في سورة الفاتحة وفي آية الكرسي، وسنتناول في مقالنا هذا سورة الفاتحة وبعضا من ملامح الجمال والتفوق فيها وبالله التوفيق
سورة الفاتحة هي سبع آيات تتوسطهم آية (إياك نعبد وإياك نستعين) الرابعة المحورية، ويتناظر النص الكريم حولها بعلاقة حَلَقية مدهشة تربط الآية الأولى بالسابعة، والآية الثانية بالسادسة، والآية الثالثة بالخامسة (الأقواس أ، ب، ج- الشكل 1)
تبدأ فاتحة الكتاب المجيد بحمد الله، ولقد تكررت صيغة (الحمدلله) هذه، في الكتاب الحكيم ثلاثا وعشرين مرة، خمس منها في فواتح السور، ومرتان في الخواتيم، وباقي المرات في سياق الآيات الكريمة، إلا أن الحمد الأول مستهل الفاتحة هوأعظمها وأبلغها، لخصوصية وبراعة الإستفتاح، ولتفرده بخصائص ترقى به إلى قمة الجمال والكمال. فالحمد هنا هو حمد الأول، العظيم، لذاته يثني على نفسه سبحانه وبحمده لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، حمد استحقاق لا حمد عوض وبدل، لذاته العلية وصفات جلاله وجماله، وأسمائه الحسنى ما علمنا منها وما لم نعلم، حمدا أزليا أبديا، سرمدا لا يفترللحظة في حلقة دائرية لا تنقطع أبدا (الحلقة 1، شكل 1 )، فالحق، قيوم قائم بنفسه، بائن عن خلقه، غني عنهم وعن حمدهم، محتجب عنهم بجلاله وكبريائه، ولكنه خالق الخلق وموجد الوجود من عدم، المنعم على العباد بنعم الإيجاد والإمداد، والهداية والرشاد، فهو رب العالمين، وما يدريك ما تشتمل عليه صفة الربوبية هذه من صفات، فهوالوهاب وهوالرزاق وهوالمنعم وهوالعفو الكريم، وهوالحليم وهواللطيف وهوالهادي وهو الغفوروهوالرحمن الرحيم، مستوجب لحمد العالمين من خلقه، لعظيم فضله ومنه عليهم، فهو وإن كان غنيا عنهم وعن حمدهم، إلا أنه يحبه منهم ويرضاه لهم، لأنه حق وهو أهل له، ولأنه الوسيلة لدوام نعمه عليهم ومباركتها، (لئن شكرتم لأزيدنكم)، وفي حلقة دائرية مباركة دائمة مستمرة من النعم، والحمد، والمزيد (الحلقة 2، شكل 1)، يَنعَم الخلق كلهم بنعمه لا يشذ عنهم من العالمين إلا فرقتين من الناس، أرجأ الحق ذكرهما، إمتهانا وخفضا لشأنهما لأن فرقة منهم عرفوا الحق ولم يعملوا به، فهم المغضوب عليهم، ومنهم فرقة ضلت عن قصد وإصرارفلم يهتدوا الى الحق ولم يعملوا به، فتأخر ذكرهما إلى آخر آية في السورة في أسفل سافلين حيث ينتهي إليه مقامهما المهين، ترسمه علاقة حَلقية متناسقة، تربط الآية الأولى من سورة الفاتحة بالآية الأخيرة منها (القوس أ، شكل 1)، فالله سبحانه دائم الإنعام على عباده من العالمين، وهم دوما يحمدونه، ما عدا المغضوب عليهم والضالين جحدوا هذه العلاقة الطيبة المباركة (الحمدلله رب العالمين، غيرالمغضوب عليهم ولا الضالين)
ولأن الرحمة بالعباد من أخص خصوصيات علاقة الرب سبحانه بخلقه (الحلقة 3، شكل 1)، فأكد عليها وثنى بها في الآية الثانية بالصيغة المزدوجة (الرحمن الرحيم), وقسم الرحمة مئة جزء، أنزل منها إلى الدنيا جزءا واحدا فقط، يرحم به الخلائق والعباد وأوكل رحمتهم لاسمه الرحمان وحذف منه الألف فتكتب الرحمن للدلالة على سعة وشمول الرحمة وسرعة تحققها للخلق أجمعين، برهم وفاجرهم (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) لكنها مقصورة على الحياة الدنيا ولذلك فإن لفظة الرحمن قصيرة ولا يمكن مدها، وأخر وادخر عنده تسعة وتسعين رحمة ليوم القيامة، اختص بها عباده الصالحين وأوكلهم لإسمه الرحيم الممتد إلى ما لا نهاية (الحلقة 4، شكل 1)، (تظهره ياء الرحيم الممكن مدها لفظا إلى ما لا نهاية) فسبحان الذي هذا كلامه، وربط هذه الآية الكريمة من بداية السورة بما يناظرها في نهاية السورة وهي قوله سبحانه (صراط الذين أنعمت عليهم) فهم المحظوظون الذين تشملهم الرحمة التامة في الدنيا والآخرة (القوس ب، شكل 1)
وحتى لا يتواكل الناس على سعة الرحمة، فيقعوا بالمظالم والمعاصي، خوفهم بالآية الثالثة وذكرهم بيوم الحساب يوم الدين، وأثبت لنفسه أسماء الملك والمالك والحكم والعدل والمقسط والشهيد والسميع والبصير والخبير، والمحصي والمعيد والحسيب، وإذا ما كان ثمة حساب وجزاء، فلا بد من منهج وبيان، وإرسال رسل وإنزال كتب، ولقد ربط هذه الآية الكريمة بما يناظرها من النصف الثاني من السورة وهي آية (اهدنا الصراط المستقيم)، في علاقة حَلَقية مبهرة (القوس ج، شكل 1) وبذلك تكتمل أركان الإيمان بالله من حب ورجاء وخوف، فالعبد في مسيره إلى الله كالطائر يطير إلى مولاه بجناحي الخوف والرجاء, فلا يرتفع جناح الخوف عاليا ليصل إلى اليأس، حتى يبدأ بالإنخفاض ليرتفع جناح الرجاء الذي لا يصل إلى مرحلة الغرور حتى ينخفض من جديد ليرتفع جناح الخوف بدورة جديدة (الحلقة 4، شكل 1) في رحلة مجيدة حاديها الحب والشوق إلى رب العالمين سبحانه
وإذا ما كانت الآيات الثلاث الأولى من السورة الكريمة إنما أتت جملا اسمية خبرية لترسخ أسس العلم الثابت بالخالق وصفاته وأسمائه الحسنى والتي استحق لأجلها العبادة والتي إنما هي أعلى درجات الحب والإنكسار والإستسلام للمحبوب سبحانه، فناسبها الشطر الأول من الآية الوسطى المحورية (إياك نعبد) بصيغة الحصر المطلق لا شريك له، وإذا كانت هذه العبادة الشريفة هي غاية غايات العبد، فلا بد لها من وسيلة فاعلة وثيقة لا تكون إلا بتوفيق الله سبحانه، فناسبها النصف الثاني من الآية الوسطى المحورية (إياك نستعين) (الحلقة 5، شكل 1)، وإنما تكون مظاهر هذه الاستعانة ما يلحق بها من الآيات الثلاث خاتمة الفاتحة والتي جاءت جملا فعلية لتمثل الجانب العملي المبني على العلم الصحيح بالله وصفاته وحقوقه، والتي ذكرت في مطلع السورة لتتحقق بذلك شروط فلاح العباد الذين وصفهم القرآن الكريم بصفتي الإيمان والعمل الصالح، ومن العجيب حقا أن يدعو ويطلب من أعلن الخضوع والعبادة لله وطلب الإستعانة منه وحصرها به، أن يطلب منه الهداية إلى الصراط المستقيم لأن الظاهر أنه هو حقا على هذا الصراط المستقيم فعلا، ولكن المعنى المراد والله أعلم هو طلب الإستدامة على هذا الطريق والإستزادة منه والارتقاء لأعلى درجاته (الحلقة رقم 6)، وينقسم الناس هنا إلى ثلاث فرق: الذين عرفوا الحق واتبعوه وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وفرقة عرفوا الحق وجحدوه ولم يعملوا به وهم المغضوب عليهم، وفرقة ثالثة لم يبالوا بطلب الحق والعلم به، فضلوا عن طريق الحق فهم الضالون، ونرى في النص روابطا متشعبة تربط جملة الذين أنعمت عليهم بالآية الكريمة 69 من سورة النساء ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذينَ أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيّينَ وَالصِّدّيقينَ وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفيقًا﴾، وجملة المغضوب عليهم بالآية الكريمة 90 من سورة البقرة ﴿بِئسَمَا اشتَرَوا بِهِ أَنفُسَهُم أَن يَكفُروا بِما أَنزَلَ اللَّهُ بَغيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضلِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ فَباءوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلكافِرينَ عَذابٌ مُهينٌ﴾، وجملة الضالين بالآية الكريمة 77 من سورة المائدة ﴿قُل يا أَهلَ الكِتابِ لا تَغلوا في دينِكُم غَيرَ الحَقِّ وَلا تَتَّبِعوا أَهواءَ قَومٍ قَد ضَلّوا مِن قَبلُ وَأَضَلّوا كَثيرًا وَضَلّوا عَن سَواءِ السَّبيلِ﴾، (أنظر بحث هل في القرآن الكريم نص وروابط متشعبة)
ومن لطائف البيان في نظم السورة أن الابتداء بالحمد إنما جاء بصيغة الغائب (الحمدلله) لأن الحمد بظهر الغيب يكون أتم وأصدق وأخلص من صيغة المخاطب الحاضر، ولكن العبادة لا بد لها من حضور وشهود فنلاحظ أسلوب الالتفات الجميل المبهر حيث التفت إلى صيغة المخاطب عند ذكر العبادة (إياك نعبد)، وإنما هذه هي شذرة من لطائف هذه السورة الكريمة التي كتبت فيها المجلدات والأسفار، وهي التي وصفها الله سبحانه بأم الكتاب و السبع المثاني والقرآن العظيم والتي مدحها رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام بأنها أعظم سور القرآن الكريم وأن الله سبحانه وتعالى قسمها بينه وبين عبده، فقال صلى الله عليه وسلم: يقول الله : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله سبحانه: حمدني عبدي، وإذا قال العبد: الرحمن الرحيم، قال الله جل وعلا: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال العبد: مالك يوم الدين، قال الله سبحانه: مجَّدني عبدي؛ فإذا قال العبد: إياك نعبد وإياك نستعين، يقول الله : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل
نسأل الله سبحانه أن يهدينا سواء السبيل وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين